فصل: (سورة المائدة: الآيات 65- 66)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة المائدة: آية 64]

{وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}.
غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازًا عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقوله:
جَادَ الْحِمَى بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلِ ** شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُه وَوِهَادُهُ

ولقد جعل لبيد للشمال يدا في قوله:
إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا

ويقال بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان.
ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به. فإن قلت: قد صح أن قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ عبارة عن البخل. فما تصنع بقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت: يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق اللَّه وأنكدهم، ونحوه بيت الأشتر:
بَقِيتُ وَفْرى وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا ** وَلَقِيتُ أضْيَافِى بِوَجْهِ عَبُوسِ

ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدى حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم: والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز، كما تقول: سبني سب اللَّه دابره، أى قطعه لأنّ السب أصله القطع. فإن قلت: كيف جاز أن يدعو اللَّه عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت: المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدًا إلى نكدهم، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم. فإن قلت: لم ثنيت اليد في قوله تعالى: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} وهي مفردة في: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}؟ قلت: ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه. وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعًا فبنى المجاز على ذلك. وقرئ {وَلُعِنُوا} بسكون العين. وفي مصحف عبد اللَّه: بل يداه بسطان.
يقال: يده بسط بالمعروف. ونحوه مشية شحح وناقة صرح يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا يتفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة. روى أن اللَّه تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس ما لا، فلما عصوا اللَّه في محمد صلى اللَّه عليه وسلم وكذبوه كف اللَّه تعالى ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء:
يد اللَّه مغلولة، ورضى بقوله الآخرون فأشركوا فيه وَلَيَزِيدَنَّ أى يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديًا في الجحود وكفرًا بآيات اللَّه وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ فكلمهم أبدًا مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد كُلَّما أَوْقَدُوا نارًا كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من اللَّه على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل:
خالفوا حكم التوراة فبعث اللَّه عليهم بخت نصر، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم فطرس الرومىّ، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المسلمين. وقيل: كلما حاربوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نصر عليهم. وعن قتادة رضى اللَّه عنه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس وَيَسْعَوْنَ ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من كتبهم.

.[سورة المائدة: الآيات 65- 66]

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)}.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ مع ما عددنا من سيئاتهم آمَنُوا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبما جاء به، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصى اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة اللَّه تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعًا بالتقوى، كما قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من سائر كتب اللَّه، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها، فكأنها أنزلت إليهم وقيل: هو القرآن. لوسع اللَّه عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا. وقوله لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ عبارة عن التوسعة. وفيه ثلاث أوجه: أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة وأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ طائفة حالها أمم في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقيل هي الطائفة المؤمنة عبد اللَّه بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى، وساءَ ما يَعْمَلُونَ فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم، وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}.
التفسير: لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزوًا ولعبًا قال لهم: ما الذي تنقمون من أهل هذا الدين. نقمت على الجل أنقم بالكسر، إذا عتبت عليه، ونقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضًا إذا كرهته وأنكرته. وسمى العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلاّ الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وليس هذا مما يوجب عتبًا وعيبًا لأن الإيمان بالله رأس جميع الطاعات، وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء عليهم السلام فهو الحق الذي لا محيد هنه لأن الطريق إلى تصديق الأنبياء هو المعجز وأنه حاصل في الكل فلا وجه للإيمان ببعض والكفر ببعض. ثم عطف عليه: {وأن أكثركم فاسقون} والمراد ما تنقمون منا إلاّ الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم كأنه قيل: ما تنكرون منا إلاّ مخالفتكم فآمنا وما فسقنا مثلكم. وفيه من حسن الازدواج والطباق ما فيه كقول القائل: هل تنقم مني إلاّ أني عفيف وأنك فاجر. ويجوز أن يعطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلاّ الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم خارجون عن الدين، ويجوز أن تكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنكرون منا إلاّ الإيمان مع فسقكم لأن أحد الخصمين إذا كان مكتسبًا للصفات الحميدة مع اتصاف الآخر بالصفات الذميمة كان ذلك أشد تأثيرًا في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم.
ويحتمل أن يكون تعليلًا معطوفًا على تعليل محذوف أي ما تنقمون منا إلاّ الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل فسقكم، ومن هنا قال الحسن في تفسيره: بفسقكم نقمتم ذلك علينا. ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف يدل عليه ما قبله أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع بالابتداء والخبر محذوف أي وفسقكم ثابت محقق عندكم إلا أن حب الجاه والمال يدعوكم إلى عدم الإنصاف. وانما خص الأكثر بالفسق مع أن اليهود كلهم فساق تعريضًا بأحبارهم ورؤسائهم الطالبين للرياسة والمال والتقرب إلى الملوك. والمراد أن أكثرهم في دينهم فساق لا عدول، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه أو ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك. قال ابن عباس: أتى نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: أؤمن بالله: {وما أنزلنا إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل} [البقرة: 136] إلى قوله: {ونحن له مسلمون} [البقرة: 136] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظًا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينًا شرًا من دينكم، فأنزل الله تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك} يعني المتقدم وهو الإيمان ولابد من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله و{مثوبة} نصب على التمييز من {شر} وهي من المصادر التي جاءت على «مفعول» كالميسور والمجلود ومثلها المشورة، وقرئ مثوبة كما يقال مشورة والمثوبة ضدّ العقوبة. واستعمال أحد الضدّين مكان الآخر مجاز رخصه إرادة التهكم مثل: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] وقد أخرج الكلام هاهنا على حسب قولهم واعتقادهم وإلاّ فلا شركة بين المسلمين وبين اليهود في أصل العقوبة حتى يقال إن عقوبة أحد الفريقين شر، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شر فقيل لهم: هب أن الأمر كذلك ولكن لعن الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك. قال المفسرون:
عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام. ويروى أن كلا المسخين كان في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير، ولهذا كان المسلمون يعيرون اليهود بعد نزول الآية ويقولون: يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم. أما قوله: {وعبد الطاغوت} فقد ذكر في الكشاف فيه أنواعًا من القراءة لا مزيد فائدة في تعدادها لشذوذها إلاّ قراءة حمزة، والوجه فيه أن العبد بمعنى العبد إلاّ أنه بناء مبالغة كقولهم: رجل حذر وفطن البليغ في الحذر والفطنة. قال الشاعر:
أبني لبيني إن أمكم ** أمة وإن أباكم عبد

أبني لبيني لستم بيدٍ ** إلاّ يدًا ليست لها عضد

وقيل: هما لغتان مثل سبع وسبع. وقيل: إن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر إلا أنهم استثقلوا الضمتين فأبدلت الأولى فتحة. وقيل: أرادوا أعبد الطاغوت مثل: فلس وأفلس إلا أنه حذف الألف وضم الباء لئلا يشبه الفعل. والطاغوت هاهنا قيل: هو العجل. وقيل: هو الأحبار. والظاهر أنه كل ما عبد من دون الله، وكل من أطاع أحدًا في معصية فقد عبده. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الكفر بجعل الله تعالى. وقالت المعتزلة: معنى هذا الجعل أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا} [الزخرف: 19] أو أنه خذلهم حتى عبدوها {أولئك} المعلونون الممسوخون {شر مكانًا} من المؤمنين. قال ابن عباس: إن مكانهم سقر ولا مكان شر منه. وقال علماء البيان: هو من باب الكناية لأنه ذكر المكان وأريد أهله الذي هو ملزوم المكان. {وأضل عن سواء السبيل} قصده ووسطه. كان ناس من اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقًا فأخبره الله بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا لم يؤثر فيهم شيء من النصيحة والموعظة قط. وقوله: {بالكفر} وبه حالان أي ملتبسين بالكفر، وكذلك قوله: {وقد دخلوا} {وهم قد خرجوا} ولذلك دخلت «قد» تقريبًا للماضي من الحال، وليفيد التوقع أيضًا. وذلك أن أمارات النفاق كانت لائحة على صفحات أحوالهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعًا لإظهار الله أسرارهم. والعامل في هذه الحال قالوا: وفي الأولى: {دخلوا} و{خرجوا} أي قالوا آمنا وحالهم أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وإنما ذكر عند الخروج كلمة «هم» لتأكيد إضافة الكفر إليهم. ونفى أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم ما يوجب كفرًا فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم. وههنا استدل المعتزلي على صحة مذهبه أن الكفر من العبد لا من الله ولكنه معارض بالعلم والداعي. {والله أعلم بما يكتمون} فيه أن حسدهم وخبثهم لا يحيط به إلا الله فما أعظم ذلك وأبلغ. الإثم الكذب كقوله بعد: {عن قولهم الإثم} والعدوان الظلم وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. وقيل: الإثم كلمة الشرك قولهم عزير ابن الله. وفي الآية فوائد منها: ذكر كثير لأن كلهم كان لا يفعل ذلك إذ بعضهم يستحيي فيترك. ومنها أن المسارعة إنما تليق بالخيرات وإنهم كانوا يستعملونها في المنكرات. ومنها أن الإثم يتناول جميع المعاصي فذكر بعده العدوان وأكل السحت ليدل على أنهما أعظم أنواع الإثم والكلام في معنى السحت. وفي تفسير الربانيين والأحبار قد مر في السورة عن قريب.